سورة الجن - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجن)


        


{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}
قرئ {أحى} وأصله وحي؛ يقال: أوحي إليه ووحى إليه، فقلبت الواو همزة، كما يقال: أعد وأزن {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} [المرسلات: 11]، وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضاً كإشاح وإسادة، وإعاء أخيه، وقرأ ابن أبي عبلة {وحى} على الأصل {أَنَّهُ استمع} بالفتح، لأنه فاعل أوحى. وإنا سمعنا: بالكسر؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنّ كسر: وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18]، {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} [الجن: 19]، ومن فتح كلهنّ فعطفاًعلى محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي {نَفَرٌ مِّنَ الجن} جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: كانوا من الشيصبان، وهم أكثر الجنّ عدداً وعامة جنود إبليس منهم {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا} أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله: {فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كتابا} [الأحقاف: 29 30]، {عَجَبًا} بديعاً مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب. وفيه مبالغة: وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره {يهدى إِلَى الرشد} يدعو إلى الصواب. وقيل: إلى التوحيد والإيمان. والضمير في {بِهِ} للقرآن؛ ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك: قالوا: {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} أي: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل؛ لأنّ قوله: {بِرَبِّنَا} يفسره {جَدُّ رَبِّنَا} عظمته من قولك: جدّ فلان في عيني، أي: عظم. وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا.
وروي في أعيننا. أو ملكه وسلطانه أو غناه، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت؛ لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. أو لسلطانه وملكوته أو لغناه. وقوله: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيان لذلك. وقرئ {جدّا ربنا} على التمييز و {جدّ ربنا} بالكسر، أي: صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولداً، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم: إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن. والشطط: مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره. ومنه: أشط في السوم، إذا أبعد فيه، أي: يقول قولا هو في نفسه شطط؛ لفرط ما أشطَّ فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله، وكان في ظننا أنّ أحداً من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفتري عليه ما ليس بحق، فكنا نصدّقهم فيم أضافوا إليه من ذلك، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم {كَذِبًا} قولاً كذباً، أي: مكذوباً فيه. أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول. ومن قرأ {أن لن تقوّل} وضع كذباً موضع تقوّلا، ولم يجعله صفة؛ لأنّ التقوّل لا يكون إلا كذباً.


{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}
الرهق: غشيان المحارم. والمعنى: أنّ الإنس بإستعاذتهم بهم زادوهم كبراً وكفراً؛ وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم؛ فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس؛ فذلك رهقهم. أو فزاد الجن الإنس رهقاً بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم {وَأَنَّهُمْ} وأنّ الإنس {ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ} وهو من كلام الجن، يقوله بعضهم لبعض.
وقيل الآيتان من جملة الوحي. والضمير في (وأنهم ظنوا) للجنّ، والخطاب في {ظَنَنتُمْ} لكفار قريش.


{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}
اللمس: المس، فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرف قال:
مَسَسْنَا مِنَ الآبَاءِ شَيْئاً وَكُلُّنَا *** إلى نَسَبٍ في قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ
يقال: لمسه والتمسه، وتلمسه (كطلبه وأطلبه وتطلبه) ونحوه: الجس. وقولهم؛ جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس: اسم مفرد في معنى الحرّاس، كالخدم في معنى الخدّام؛ ولذلك وصف بشديد، ولو ذهب إلى معناه لقيل: شداداً؛ ونحوه.
أَخْشَى رُجَيْلاً أَوْ رُكُيْباً غَادِيَا ***
لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل الحرس: اسم جمع للراصد، على معنى: ذوى شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب. بمعنى الراصد أو كقوله:
...... وَمعى جِيَاعاً ***
يعني يجد شهاباً راصداً له ولأجله.
فإن قلت: كأن الرجم لم يكن في الجاهلية، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} [الملك: 5]، فذكر فائدتين في خلق الكواكب: التزيين، ورجم الشياطين؟ قلت: قال بعضهم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته، والصحيح أنه كان قبل المبعث؛ وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية. قال بشر بن أبي خازم:
وَالْعِيرُ يُرْهِقُهَا الْغُبَارُ وَجَحْشُهَا *** يَنْقَضُّ خَلْفَهُمَا انْقِضَاضَ الْكَوْكَبِ
وقال أوس بن حجر:
وَانْقَضَّ كَالدُّرِّيِّ يَتْبَعُه *** نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالهُ طُنُبَا
وقال عوف بن الخرع:
يَرُدُّ عَلَيْنَا الْعِيرَ مِنْ دُونِ إلْفِهِ *** أَوِ الثَّوْرَ كَالدُّرِّىِّ يَتْبَعُهُ الدَّمُ
ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة؛ حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟» فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم. وفي قوله: {مُلِئَتْ} دليل على أن الحادث هو المل والكثرة، وكذلك قوله: {نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد} أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.

1 | 2 | 3 | 4